أحسن

معارف، عادات و مهارات لحياة أحسن

الذكاء العاطفي السلوك البشري مواضيع مميزة

تجربة ميلغرام عن الانصياع لذوي السلطة

بينما كان هيو تومسون، الظابط في سلاح الجو الأمريكي، يحلق برفقة جنوده بطائرته المروحية في مهمة استطلاعية في فترة الحرب الفيتنامية،  اذا بعينيه تقع على مشهد غاية في القسوة.

رأى خندقاً ممتلئاً بجثث القتلى من المدنيين و النساء و الأطفال.  و بالرغم من أن تومسون لم يصله أي تقرير بوجود معارك دائرة في تلك المنطقة إلا أنه رأى جماعة من الفيتناميين المدنيين العزل يركضون في زعر و هلع شديدين وسط المستنقعات  و ينهال عليهم وابل من الرصاص يطلقه عليهم بعض الجنود الأمريكيين الذين كانوا يلحقون بهم.

بمجرد أن رأي تومسون ذلك المشهد، أمر جنوده لتهيئة أسلحتهم و الاستعداد لإطلاق النار و أسرع في الهبوط بالطائرة. 

عودة بالزمن إلى الوراء

إلى حين هبوط تومسون إلى الأرض،  دعونا نحلق نحن نحو الولايات المتحدة الأمريكية. و نرجع بالزمن قليلاً إلى ما بعد منتصف القرن الماضي حيث كان الأمريكيون في ذلك الحين يستنكرون بشدة المذابح التي ارتكبتها القوات النازية خلال الحرب العالمية،  و كان بعضهم يرى أن الجنود الألمان ما كانوا لينصاعوا لأوامر قادتهم و يفعلوا تلك المذابح إلا لأنهم قوم مجبولون على العنف و تعوزهم الإنسانية. في إشارة إلى أنهم – أي الأمريكيين- منزهون عن ذلك إذ لا يمكن أن ينصاعوا لمثل تلك التعليمات الدموية.

في بدايات الستينيات من القرن الماضي انبرى أحد علماء النفس في جامعة ييل الأمريكية يدعي “ستانلي مليجرام” لدراسة ذلك الأمر. حيث نشر في العام 1963 نتائج مذهلة للأبحاث التي قام بها.  مليجرام قام بصميم تجربة مثيرة للغاية – أصبحت تعرف فيما بعد بتجربة ميلغرام– التجربة كان الغرض منها معرفة مدى قابلية الأشخاص للانصياع لتعليمات تصدر إليهم من أشخاص ذووا سلطة لفعل أشياء تتعارض مع ما تمليه عليهم ضمائرهم.

خطوات تجربة ميلغرام

في التجربة يتم اقناع المشاركين أن الغرض هو عمل دراسة عن عملية التعليم.  يدخل المشارك و الباحث القائم على التجربة و شخص ثالث هو في الأصل عضو في فريق التجربة لكن يتظاهر بأنه مشارك أيضاً،  يدخل الجميع إلى إحدى الغرف،  و فيها يتم اختيار الشخص المتظاهر لكي يلعب دور المتعلم في التجربة و يتم اجلاسه في كرسي كهربائي و تقيده بحجة عدم تمكينه من الهرب و عدم إكمال التجربة.

يتم اصطحاب المشارك الذي تم إخباره بأنه سيلعب دور “المعلم” إلى غرفة مجاورة، بحيث يمكن إن يتواصل مع الشخص الآخر لكن من غير أن يراه.  يشرح الباحث القائم على التجربة للمشارك ما يجب عليه عمله،  و هو إن يقوم بتعليم الشخص الآخر عدد من الأزواج من الكلمات و من ثم يقوم باختباره فيها بحيث يذكر المشارك الكلمة الأولى،  و يجيب المتعلم بالكلمة المقابلة لها. اذا أخطأ المتعلم في الإجابة يقوم المشارك بالضغط على زر ليتم صعق المتعلم بجهد كهربائي، قيمة الجهد الكهربائي تزيد في كل مرة يخطئ فيها المتعلم بمقدار 15 فولت. قبل بداية الاختبار يتم صعق المشارك نفسه بجهاز توليد الصعقات الكهربائية حتى يستشعر ما سوف يشعر به المتعلم في حال صعقه.

تجربة ميلغرام

على خلاف ما يعتقده المشارك، لايتم في الحقيقة صعق الشخص الآخر. في كل مرة يضغط فيها المشارك على زر الصعق،  يتم تشغيل أصوات من جهاز تسجيل يكون فيها تأوهات و صراخ  يتناسبان مع شده الصعقة. تبدأ التجربة و يبدأ المشاركون في صعق المتعلم كلما أخطأ،  و بعد عدد من الصعقات المتزايدة،  يبدأ المتعلم في ركل الحائط الذي يفصل غرفته عن الغرفة التي يوجد بها المشارك و طلب التوقف،  و مع زيادة شدة الصعق من المشارك، تختفي ردة الفعل من الشخص الآخر تماماً.

عند الوصول إلى هذه المرحلة، جميع المشاركين يطلبون التوقف و التأكد من سلامة الشخص الآخر. لكن أغلبهم يستمر في التجربة عندما يأكد لهم القائم على التجربة أنه لن تقع على المشارك أية مسؤولية عما قد يحدث.  و يطلب منه بحزم المواصلة في التجربة و يستخدم هذه العبارات بالترتيب في كل مرة يطلب فيها المشارك التوقف:

  • رجاءاً استمر. 
  • التجربة تقتضي أن تستمر.
  • من الضروري جداً إن تواصل التجربة.
  • ليس لديك أي خيار آخر،  يجب أن تواصل التجربة. 

في حال أصر المشارك بعد هذه العبارات على أن يتوقف،  يتم قطع التجربة،  و إلا تستمر التجربة حتى يصل جهد الصعقة الكهربائية إلى قيمته القصوى و هي 450 فولت و بعد ذلك يتم إنهاء التجربة.

لا يمكن أن نفعل ذلك

قبل التجربة، قام مليجرام باستطلاع عدد 40 طالب في الكلية و عدد من زملاءه عن توقعاتهم حول عدد الأشخاص – من أصل 100 مشارك في التجربة- الذين يمكن أن يصلوا إلى أقصى جهد للصعقة الكهربائية،  كانت توقعاتهم تتراوح بين 0 و 3 أشخاص. لكن كانت نتيجة التجربة بعيدة كل البعد عن ذلك،  مليجرام وجد أن أكثر من نصف المشاركين،  حوالي 65% واصلوا التجربة حتى الوصول إلى أقصى جهد للصعقة الكهربائية!  أكثر من نصف المشاركين انصاعوا لتنفيذ أمر في ظاهره و في قناعتهم أنه قد يؤذي شخصاً آخر. التجربة تم تكرارها عدد من المرات و في أماكن مختلفة و مشاركين متنوعين،  و كانت النتائج كما هي،  الأشخاص يميلون للانصياع لتعليمات ذوي السلطة و النفوذ. 

كيف يفسر ذلك

من التفاسير لذلك التصرف، أن الشخص قد يرى نفسه مجرد أداة لتنفيذ و تحقيق رغبات أشخاص آخرين، و لذلك لا يعتبر نفسه مسؤولاً عن ما يبدر منه من تصرفات.  من التفسيرات أيضاً، أن الشخص عندما لا تكون لديه المقدرة أو المعرفة لاتخاذ القرار – خصوصاً في وقت الأزمات- سيترك تلك المهمة – اتخاذ القرار- للمجموعة و بالتالي للهرمية – الهيكلة- الموجودة فيها و من ثم يتبع المجموعة في كل ما تفعل.

الأشخاص ذووا السلطة الذين ينصاع لهم الآخرين،  يمكن أن يكونوا حكاماً ظالمين لا يرون لشعوبهم آلهة غيرهم،  أو يكونوا رجال دين متطرفين يفرخون شباباً متفجرين.  أو يكونوا أساتذة قمعيين يدرسون محتوى لا يمت لمطلوبات المقرر بصلة و لأن لديهم سلطة التقييم، يجبرون الطلاب على تبني و قول ما يريدون.

ماذا فعل هيو تومسون 

دعونا نرجع إلي فيتنام، و إلى المدنيين الذين يطاردهم الجنود لقتلهم. هناك تركنا الطيار تومسون على وشك أن يهبط بالمروحية و كل جنوده مشهرين رشاشاتهم.  تعمّد تومسون أن يهبط بالمروحية تماماً بين الجنود المهاجمين و بين الأبرياء الهاربين، و أمر طاقمه بأمر مخالف لكل الأعراف و البروتوكولات،  أمرهم بأن يوجهوا أسلحتهم نحو بني جلدتهم،  نحو الجنود الأمريكين، و إن يطلقوا النار على كل من يستمر في الهجوم على الفيتناميين،  فما كان من الجنود المهاجمين إلا أن عادوا لرشدهم و كفوا عن قتل المدنيين.  و هو بدوره،  أسرع من الناحية الأخري لينتشل طفلة رضيعة كادت تغرق في برك الدماء.و طلب فوراً أن يتم أخلاء الجرحى ليتم إسعافهم. 

الخلاصة

تومسون ضرب مثالاً حياً و نموذجاً مشرقاً.  يطمئننا أن من الممكن الخروج من الدائرة الخبيثة للانصياع الأعمى و غيره من السلوكيات الاجتماعية الذميمة. و أكد لنا أن شخصاً واحداً يمكن أن يغيّر مجرى الأحداث. 

يا ترى، كيف يمكن أن نستفيد من مثل هذه القصة و من فكرة تجربة ميلغرام في حياتنا و واقعنا الذي نعيشه؟