التخطيط الإستراتيجي الاقتصادي 2-2

في اليوم الخامس من أيام دورة التخطيط الإستراتيجي القومي، واصل البروف الحديث عن التخطيط الإستراتيجي الإقتصادي تحديداً عرض أثنين من التجارب و الإستراتيجيات الإقتصادية أولاهما الإستراتيجية الغربية و الثانية إستراتيجية النمور الآسيوية. في النصف الثاني من اليوم تحدث عن التخطيط الإستراتيجي السياسي.

الاقتصاد عن الغربيين

التجربة الاقتصادية  الغربية تقوم على فلسفة التحرير الاقتصادي والتي يقصد بها إزالة كل القيود التي قد تعيق الإنتاج في الدولة و من ثم ضمان التنافس الشريف بين المنتجين الأمر الذي يؤدي لخفض الأسعار و رفع جودة المنتجات، وبهذا يمكن أن تنافس منتجات و صادرات الدولة المعينة في الأسواق العالمية الأمر الذي ينعكس إيجاباً على اقتصاد البلد المعني.

شروط التحرير الاقتصادي

هذا التحرير لديه العديد الشروط التي تضمن و تكفل نجاحه. من أهم هذه الشروط، العدالة و عدم التمييز بين المنتجين مثلاً في الرسوم و الضرائب و ما إلي ذلك. ومن الشروط كذلك سيادة النظام و القانون في الدولة و أن لا تكون هناك أي استثناءات لأي من كان. من الشروط أيضاً أن لا يكون هناك احتكارا للسلع و أن لا تتدخل الدولة في التسعير، فالمنافسة –الشريفة- كفيلة بأن يعمل المنتجين على خفض إسعار المنتجات.

من شروط التحرير أيضاً، أن لا تقوم الدولة بتأميم الشركات أو المؤسسات. أشار البروف في هذا الصدد أن هذا الشرط قامت الحكومة الأمريكية بخرقه إبان الأزمة المالية فمثلاً كانت أن قامت بتأميم بعض البنوك حتى تحميها من الإنهيار و ما يترتب عليه من تبعات مثل تشريد الموظفين. من الشروط أيضاً الخصخصة و تعني تحويل الشركات الحكومية للقطاع الخاص -بإستثناء الأنشطة السيادية و الأمنية للدولة مثل المواني و قطاع الإتصالات-. و لضمان الوصل للغيات المرجوة من الخصخصة يجب أن تكون للشركات -التي ستؤول إليها شركات الدولة-  مقدرات إدارية و مالية و تقنية تؤهلها لتقديم منجاتها بالجودة المطلوبة التي تضمن لها المنافسة العالمية.

إشار البروف أن للتحرير الإقتصادي بعض الأبعاد الإستراتيجية و الأمنية التي يجب وضعها في الإعتبار. منها غسيل الأموال و الحرب الإقتصادية.

نجاحات و إخفاقات

الإستراتيجية الاقتصادية الغربية نجت في بعض الأمور و فشلت في البعض الآخر. على سبيل المثال زاد الدخل القومي لكن في المقابل لم يتم توزيعه بصورة مناسبة، فاكثر من ثلثي الدخل القومي كان بأيدي عدد من الشركات الكبيرة. و المتبقي للشركات الصغيرة و صغار المنتجين -ما يدلل على ذلك الحركة الاحتجاجية “احتلوا وول ستريت ” التي قامت في أمريكا ضد عدم العدالة في توزيع الدخل سميت الحركة بحركة 99% وهذا الاسم يعبر عن ما يحسه المتظاهرون فيما يلي عدم العدالة، فمثلاً في العام 2007 كان 1% فقط من الشعب الأمريكي يحصلون على أكثر من 23% من إجمالي الدخل السنوي.

من النتائج أيضاً زيادة فرص العمل لكن هذا الأمر لم يدم طويلاً إذ تأثر بظهور النمور الأسيوية في سبعينيات القرن الماضي. و أخيراً ازدياد الدخل وفر لهم أمكانيات أكبر لتحقيق الأمن القومي.

عدم توزيع الدخل القومي بصورة مناسبة علق عليه فوكاياما -المفكر و السياسي الأمريكي- ما معناه أنهم –أي الأمريكيون- قد أخطأوا بأن وضعوا الإقتصاد بأيدي الشركات التي لا تعرف سوى لغة الربح و الفائدة الأمر الذي قاد إلى الفساد المالي و الفساد الأخلاقي القادم أكبر. من المفارقات أن فوكاياما هذا ياباني الأصل أمريكي الجنسية.

النمور الآسيوية و اليابان

إستطاعت النمور الآسيوية –تايوان، سنغافورة، هونغ كونغ و كوريا الجنوبية- برغم ما كانوا يعانوه من مشاكل إقتصادية  وفقر و مشاكل إجتماعية – أن ينهضوا ببلدانهم -في فترة تعتبر قصيرة نسبياً ما بين الستينيات و التسعينيات – و استطاعوا أن يحققوا معدلات نمو إقتصادية عالية وضعتهم في مصاف الدول الإقتصادية الكبري. و من قبل ذلك إستطاعت اليابان أن تتحول من دولة أنهكتها و دمرتها الحرب إقتصادياً بل و إجتماعياً كذلك لما تركته من آثار نفسية سالبة، إستطاعت أن توجد لنفسها مكاناً لتنافس كبريات الدول و ينمو إقتصادها حتى تصبح الثالثة على مستوى العالم من حيث إجمالي الناتج المحلي.

اقتصاد اليابان

اليابانيون وصلوا لما وصلوا عندما “استدعوا قوتهم العلمية” وسخروها للنهوض و الرقي ببلادهم. وكانوا يرون أن الاقتصاد هو الأساس. كان اليابانيون يحترمون الاشتراكية لأنها –حسب رأيهم- نبيلة المقصد لكنها فشلت في التطبيق العملي و في المقابل كانوا يبغضون الرأسمالية لأنها تكرس الأموال في أيدي قلة من الشعب. بناءاً على ذلك قرروا الدمج بين النظامين ليصلوا إلي رؤيتهم الاقتصادية التي تشمل:

  • زيادة في الدخل القومي مصحوبة بعدالة في توزيعه.
  • توفير فرص عمل للجميع
  • رفع مستوى الأجور.. ليس ذلك و حسب، بل و الوصول للرفاه.
  • تحقيق الأمن القومي. و هي المسؤولية الكبرى التي ألقيت على عاتق الإستراتيجيين و الإقتصاديين في حينها.

الكثير من التعقيدات

للوصول لما ذكر أعلاه، كان على اليابانيين التعامل مع العديد من التعقيدات، على سبيل المثال التناقض بين تحقيق الميزة النسبية للدولة في مقابل حوجة الدولة للرسوم -مثل الضرائب و غيرها- و أيضا في ظل الحاجة إلى رفع الأجور الأمران اللذان يتنافيان مع تحقيق الميزة النسبية، فزيادتهما –الرسوم و الأجور- تؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج و هي كفيلة بأن تضمن خروج المنتجات من المنافسة الدولية.

لتلافي ذلك قرروا تخفيض نسبة الرسوم الحكومية – و إلغاء بعضها تدريجياً –  و أيضاً قرروا تخفيض الأجور على إنتاج الوحدات، لكن في المقابل من شأن هذين الإجراءين أن يزداد الإنتاج بصورة كبيرة. فلما طلب من الشركات عمل مسوحات تسويقية –تعد من أكبر المسوحات على مستوى العالم- وجدوا أن ما قاموا بالتخطيط له سيوفر لهم فرص إنتاجية كبيرة للغاية و قد كان، فعندما شرعوا في تنفيذ الخطط، بدأ الإنتاج في الازدياد الأمر الذي أدي إلى زيادة الأجور الإجمالية –بالرغم من الأجور المنخفضة للوحدات- و كذلك زيادة ما تجنيه الدولة من رسوم –بالرغم من النسبة المنخفضة التي تفرضها الدولة- .

جميع ما ذكر كان مصحوباً بالدعم و الرعاية و التأهيل للشركات –التي أحياناً كان يتم دمج الصغيرة منها – حتي تتمكن من المنافسة العالمية- إضافة إلى العديد من السياسات التي تضمن عدالة التوزيع للدخل مثل تحديد نطاق العمل في الشركات الكبرى لمستويات معينة، ما دون ذلك تقوم نفس تلك الشركات بتأهيل أصحاب الشركات الصغيرة الأخرى و صغار المنتجين و يوفروا لهم التدريب و التقنيات و المواد الخام اللازمة ليعموا كموردين (Suppliers) لمدخلات الإنتاج للشركات الكبرى. صاحب ذلك تعزيز التعليم بما يخدم المرحلة من سلوكيات و قيم، إضافةً للمهارات و المعارف. و ساند كل ما ذكر علاقات دولية مبنية على التعاون.

نجاح عابر للحدود

استمر الأمر على النحو السابق، من أفضل إلى الأفضل إلى أن وصلت اليابان لما وصلت إليه. لدرجة أنهم وصلوا لمرحلة لم يجدوا  فيها ما يكفي من عمالة للمواصلة في الدفع بالحركة الاقتصادية الضخمة التي عمت البلاد. و لأنهم يعتقدون أن سر القوة و التفوق الذي وصلوا إليه يكمن في ثقافتهم، كان أن تفادوا جلب العمالة لداخل اليابان بأن تخطوا حدود المحلية و يقوموا بتشييد المصانع في العديد من الدول و ذلك للمواصلة في بناء اقتصادهم.

نتائج اليابانيين

  • الدخل القومي ازداد حتى وصل أرقاماً غير مسبوقة، مع عدالة في توزيعه -55% لصغار المنتجين و 45% لكبار المنتجين مقابل 30 % و 70% في الإستراتيجية الغربية-.
  • توفر فرص العمل لدرجة أن العمالة لم تعد تكفي كما ذكر.
  • تحقيق الأمن القومي و ذلك لما تم صنعه من علاقات تعتمد على ربط المصالح الإستراتيجية الدولية.
  • قوة إجتماعية و علمية و تقنية فائقة. و ذكر البروف ما أطلعه عليه أحد الخبراء اليابانيين أن قوة الإقتصاد مكنتهم من أن يوفروا 9 معلمين على مستوي عال كل لمعاق أو ذي إحتياجات خاصة.

المثير في الأمر أن جزءاً من المبادئ التي اعتمد عليها اليابانيون في نهضتهم استخلصوها من دراستهم للتاريخ وليس أي تاريخ، ففي إثناء دراستهم و بحثهم وجدوا أنه في حقبة تاريخية معينة، ازداد دخل الفرد إلى الضعف. تلك الفترة كانت هي فترة بدايات الدولة الإسلامية. ولما درسوا ما قام به المسلمون وجدوا أن الدولة كانت تفرض رسوم قليلة 2.5% (الزكاة) و صاحب ذلك القيم التي سادت التي كان على رأسها العدل و عدم التمييز.

نواصل إن شاء الله الجزء الثاني من اليوم الخامس (التخطيط الإستراتيجي السياسي)